الخميس، 16 فبراير 2017

خلى بالك من التورماى

خلى بالك من التورماى

لا أجد شئ غريب فى تذكر الماضى سوى انه مضى !

اكاد أجزم انى كنت بالخامسة من عمرى ولم يمُر يوماً واحد حتى وجدت نفسى بالثانية والعشرون ..ومع مرور كل تلك الاعوام تكونت بالطبع الكثير من الذكريات منها السئ ومنها الجميل ولكن يوجد ذاكرة واحدة تحولت تماماً من "أكثر ذكرى مبهجة" إلى "أكثر واقع مرعب" .. قبل ان ابدأ بسرد قصتى .. يوجد فقط القليل من الدردشة.

 كانت دائماً –ولاتزال- ترتبط معى الذكريات بروائح .. رائحة عطر، كتاب قديم، برفان معتق حريمى، دخان سجائر خاص، ملوخية بالفراخ .. استطيع تميز كل رائحة وإستدعاء الذكرى الخاصة بها .. أجد ذلك رائع لانه يجعلنى اتذكر ما نسيته – او ظننت انى نسيته- .. وفى بعض الاوقات اتذكر اشخاص قد فاتوا فأشعر بوجودهم معى للمساندة فى بعض الاوقات او لمجرد سماع النكات والإستمتاع برفقة بعضنا البعض .. لدى ايضاً عادة غريبة .. وهى أنى لا أقوم بشئ فعلته وانا صغير بمعنى انى لا احاول استدعاء بعض الذكريات مرة اخرى .. ليس لسوءٍ بها ولكن خوفاً منى ان تتغير تلك الصورة الجميلة التى فى خيالى .. ففى لحظة اتمنى شرب الشاى بلبن وفى لحظة اخرى اخشى ان اشربه فلا يكون بنفس الروعة عندما كنت صغير .. انها الذكريات التى وضعت بمتحف وكُتب عليها "ممنوع الاقتراب او التصوير او اللعب فيها بأى شكل من الاشكال" .. ولكن عودة لأصل الموضوع .. الذكرى التى تغيرت وتحاول تغيرى ..الذكرى التى هربت من المتحف وقامت بأقتحام حياتى بشكل حديث .. الذكرى التى قد تبدو تافهة لبعض الناس ولكنها تحمل الكثير من المعانى والمخاوف .. على الاقل لى .. انها يا حضرات .. ترام الاسكندرية.

كانت الترام بالنسبة لى وانا طفل "ملاهى" كنت أسعد باليوم الذى تصحبنى فيه أمى فى الصباح للذهاب فى مشوار سريع وأخذ الترام ..كنت احاول ملاحقة السيارات التى نمر بجانبها بعينى ومشاهدة المارة وانا أشعر انى فى آله عجيبة مستمتع بحركتها المتمايلة حتى الوصول لوجهتنا .. كانت تلك هى الذكرى .. بهجة ممزوجة برائحة الصباح الجميلة .. حتى تقدمت بالعمر .. وأصبحت على ما انا عليه الان .. لا انكر انى أصبحت ارى بعض الاشياء اكثر وضوحاً وادقق فى بعض التفاصيل .. حتى أصبحت تلك التفاصيل ما أخشى الوصول عليه فى يوماً ما ! أصبحت أكره اللحظة التى اضطر فيها لركوب الترام فتثير كل مخاوفى من جديد ..

المثير فى الترام ان كراسيها مواجهة لبعضها البعض .. فتستطيع رؤية الوجوة .. وما وجدته اثناء جلوسى هو ان لا يوجد أحد سعيد .. كل شخص جالس يحمل هم، الحزن يخيم على الرُكاب .. لا أعلم لماذا ؟! قد تكون بسبب سرعة الترام المتباطئة او بسبب مستوى النظافة المنحدر .. او ربما بسبب الأطفال "المتشعلقة" .. او قد تكون حياتهم حزينه وبطيئة ومملة .. تماماً مثل الترام .. المرة الوحيدة التى وجدت بها شخص يبتسم كان شخص يحدث نفسه فظننت انه مجنون ! .. ومرة بعد مرة بدأت اخاف ركوب الترام .. لأنى اصبحت اشعر انى سأصبح مثل الجالسين .. ممل وحزين وحامل الهموم .. فقد قررت عدم ركوب مواصله عادية خوفاً من عدم وجودها او لزحام الطريق وركبت واحدة اكثر اماناً وستوصلنى إلى وجهتى النهائية ولكنها تسحب منى فى كل مرة جزء من حياتى السعيدة لتجعلنى شخصاً اخر مثل الجالسين ..

أقدم انواع المشاعر هو الشعور بالخوف، وأقدم انواع الخوف هو الخوف من المجهول .. لذلك يوجد حكمة فى التمسك بالماضى وذكرياته .. لاننا نعرف ما حدث به بالفعل ولكن المستقبل غيرى مرئى –إلا لو مكشوف عنك الحجاب- ، تمسكوا بتلك الذكريات الجميلة وشعورها الدافئ فقد تكون الطريق الوحيد لمحاربة ذلك الخوف بشعوره المُظلم .. لا أعلم مصير ذلك الهاجس المسيطر على فى هذه الفترة ولكنه مسيره ان ينتهى .. إما بالتحقُق او بالتحول إلى مجرد ذكرى اخرى أنظر إليها بإبتسامه وانا أقول "انا كنت اهبل اوى" .. وفى النهاية لن أقول حكمة .. ولكنى سأقول "خلى بالك من التورماى" !
   

  مصطفى الشابى