الأحد، 4 فبراير 2018

نص ساعة

نص ساعة

قالت قبل ان ترتشف القهوة من فنجانها المزخرف بألوان وردية

-وياترى بقى اللى انجرحوا دول يداوا جرحهم ازاى ؟

نظر إليها الكاتب وتسأل فى نفسه " كيف لتلك المرأة الجميلة، الرقيقة .. الأنيقة فى شرب قهوتها ان تتكلم وكأنها تفاصل فى سعر كيلو طماطم فى السوق .. بالتأكيد لم تتماشى الطريقة مع المظهر العام ! ولكنه تغاضى عن ذلك فكيف له ان يقوم بالحكم على شخص بمجرد طريقة كلامه ... لابد ان يقضى معه بعض الوقت .. على الأقل نصف ساعة .. فكانت هذه هى احدى قوانين الكاتب "نصف ساعة"  .. نظر الى ساعته وبدأ بحساب الوقت .. نظر الى المرأة الجميلة وقبل ان يرد فكر سريعاً فى كيف يكون الرد عليها .. هل يرد بطريقة الكاتب العاقل الرزين الذى يحسب عدد الحروف التى ينقطها ويقوم بإفحامها برد عميق على سؤالها الساذج .. ام يتلون بشخصية من الشخصيات التى قام بكتابتها من قبل .. فكان الكاتب يستطيع ان يتكلم مثل شخصياته .. ففى النهاية هم ناتج عنه ومنه .. ولكن بعد بضعه ثوانى خشى ان يكون قد تأخر بالإجابة وتظن المرأة انه عاجز عنها فقرر ان يترك الكلام يخرج بعشوائية .. فهو فى الاول وفى الاخر كاتب .. وكل ما يخرج من فمه سواء مكتوب او مسموع هو شئ مقدس جميل يجب على الأخريين احترامه وتقديره !

أعتدل الكاتب فى جلسته ووضع رجل على رجل ورد على المرأة "طبعاً يا فندم يدّاوى عادى .. مفيش جرح مابيدواش .. إلا الناس الكئيبة والى بيبصوا على الحياة بمنظار اسود .. دول حيفضلوا يشوفوا جرحهم بيوسع كل يوم عن اليوم اللى قبله .. بل وإن جرحهم ده حيفتح لهم جروح تانية فى المستقبل"

وضعت المرأة الفنجان وردى المزخرف على الطاولة امامها وتحفزت للحوار .. فكانت تعشق مثل هذه الأشتباكات الخفيفة وتبحث عنها .. فمنذ ان توفى زوجها بالسكتة القلبية منذ عامين وهى تشعر بالملل لإفتقار حياتها لمثل هذه المناقشات ولكن الوضع الأن مختلف فهذا الرجل ليس زوجها ولا يمت لها بصلة .. فهو لن يتحمل الحديث معاها إذا حمى وطيس الحوار مثل ما كان يتحملها زوجها –رحمه الله- فكانت تتخيل انه إذا لم يستطع احد فيهم اقناع الاخر بوجه نظره على اقل تقدير سوف يرميها الكاتب بطقطوقة السجائر .. فكرت بكل هذا واستجمعت شتات افكارها وردت علي الكاتب وهى تحاول تصنع أسلوب الهوانم "ايه ده .. شكل حضرتك من النوع المتفائل –تطلق ضحكة ساخرة ولكنها تفقد السيطرة عليها وتتحول إلى ضحكة مجلجلة- شكلنا مش حنتفق من أولها"

قهقة الكاتب رداً على ضحكة المرأة واخرج سيجارة من علبة سجائره فى جيبه الايسر وقام بإشعالها وأخذ نفس عميق منها ثم اخرجه ورد على عليها "اهى ضحكة حضرتك دى أكبر دليل اننا حنتفق .. الإنسان ربنا خلقه عشان يعانى –لقد خلقنا الإنسان فى كبد- ولكن هل ده معناه اننا المفروض نستسلم للمعاناة دى ؟ هل معناه اننا نفضل فى حزن على اللى فات وخايفين من اللى جاى ؟ الأستسلام هو أكبر عدو للبنى أدم .. لانه بيقتل !" .. ثم بدأ يشيح بنظره عن المرأة ويبحث عن طقطوقة السجائر حتى وجدها جانب الفوتية الذى تجلس عليه المرأة .. فقام من مكانه واعتذر منها واخدها ووضعها امامه.

بدأت المرأة تشعر بالخطر .. فما تخشاه قد يحدث بعد بضعه دقائق .. ها هو الكاتب وضع الطقطوقة امامه ويدخن سيجارته الاخيرة قبل الأعتداء .. بدأت تفكر اكثر واكثر .. هل تهاوده فى الرأى حتى تنجو بحياتها ؟ ام انها مجرد تخيلات فى عقلها المرهق من الوحدة ! .. سريعاً ما اخرجت تلك المخيلات من رأسها وقامت بالإعتدال فى جلستها وقالت "قتل .. قتل ايه بس كفالله الشر .. انت كبرت الموضوع حبيتين .. انا معاك اكيد الاستسلام ده شئ وحش ..وحش اوى، بس على رأى المثل اللى يطاطى للريح تفوت" وللحظة ادركت انها تتكلم مثل جدتها بالامثال ولا ينقصها سوى مصمصة شفايفها والنظر بعدم إكتراث فقررت ان تنهى جملتها المريبة بمثال شهير حتى لا يأخذ عنها الكاتب إنطباع سئ " وطبعاً زى ما حضرتك عارف السهم عشان يطلع قدام لازم يرجع لورا الاول". اعتدلت فى جلستها وشعرت بثقة فى نفسها وان هذا الحوار فى اصبح فى صفها.

"اللى يطاطى للريح تفوت ؟" أدرك الكاتب فى هذه الجملة ان الحوار أصبح اشبه بأحاديث النساء فى الحوارى الشعبية .. ومع ذلك لا يستطيع ان يخيل كيف لهذه المرأة الجميلة الأنيقة ان تتكلم بهذا الأسلوب السوقى ! جاء على بال الكاتب انه قد يكون تحول إلى إنسان عنصرى .. لا يستطيع تقبل الأخر ! لا يراهم كبشر مثله بل يراهم كمادة للكتابة عنهم حتى يلاقى نجاح فى السوق وفى المنتديات الثقافية .. ولكن كل هذا لا يهم الأن .. فهو من ينتصر فى هذا الحوار، هاهى بالرغم من طريقة كلامها والأمثلتها أصحبت توافقه الرأى .. لا يتبقى الأن سوى ان يختم الحوار بجملة قوية او حكاية مؤثرة حتى تخضع له تماماً .. فتخيل الكاتب انه يستجمع كل الحكمة التى فى العالم واخذ نفس عميق وقال "اهو حضرتك بدأتى توافقينى فى الرأى اهو .. السهم لازم يطلع قدام .. لو فضلت شاده لورا الخيط يتقطع ! الواحد أكيد حيمر بظروف تدفعه للإكتئاب والحزن .. ولازم احنا كمان نمر بالوقت ده وإلا مش حنكون بشر .. حنصبح مكن مش بيحس ولا بيشعر بأى شئ .. اهم شئ بقى فى كل ده ان الحزن مايخدش اكتر من وقته عشان مايتحكمش فينا ونصبح فى ايده زى الماريونت"

أستسلمت المرأة لكلام الكاتب للمرة الاولى .. ليس لخوفها من الطقطوقة فبالتأكيد لن يغامر كاتب كبير معروف بسمعته من أجل ان يتخلص من حوار مزعج .. ولكن لأنها ادركت انه على حق .. فهى تتذكر ان عندما توفى زوجها حزنت عليه كثيراً، فكان اخر من تبقى لها من عائلتها بالإضافة انها لم تحظى بأطفال فى حياتها، فكانت فترة صعبة فى حياتها ظنت انها لن تتعافى منها أبداً .. ولكن هاهى تجلس فى افخم الكافيهات مرتدية اكثر الملابس أناقة وتحظى بحياة هادئة ومريحة خالية من المتاعب .. فكان الكاتب على حق، لكل جرح قوته ولكن الجروح تلتأم مهما كانت قوتها .. وأثارها قد تذكرنا بالآلام التى مررنا بها .. ولكنها تذكرنا ايضاً اننا مررنا بها بالفعل وأن لا جرح كبير ولا آلم قوى يستطيع ان يحنى رؤسنا .. لأول مرة منذ فترة طويلة استطاع احد بإقناعها برأيه .. لابد ان تظهر له انها لم تستلم لتجنب الحوار بل لإحترامها لرأيه .. فردت عليه "همم .. أقنعتنى، بس بردو مش متفقة معاك"

تعجب الكاتب .. يالبجاحة هذه المرأة ؟! كيف لها بعد كل ما قاله وبعد إعلان استسلامها له أن تعلن انها غير متفقة معه! هل هى مجنونة ؟ ام هى خلقت لتعترض كما قال مكسيم جوركى ! تحفز الكاتب واطفأ السيجارة فى الطقطوقة امامه وغير وضع جسده على الفوتيه المريح ليصبح فى وضع الاستعداد ورد عليها "مش متفقة فى ايه مش واخد بالى ؟"

أطلقت المرأة ضحكة رقيقة وشاورت للنادل وهى تقول "روق بالك امال .. انا مش متفقة انك شربت السيجارة كده على الريق من غير ما تشرب او تاكل حاجة" توجه كلامها للنادل "شوف الاستاذ يشرب ايه"

أستراح الكاتب و أحس بالذنب فهى فى النهاية امرأة ذوق .. توافقه الرأى وطلبت له شئ ليشربه ! لعله أسرع بالحكم عليها حتى بعد قضاء نصف ساعة معاها، لابد أن يراجع الكاتب اولوياته .. وأن يتخلص من تلك العادة الجديدة، فيجب عليه ان يحترم كل من يتحدث معه بإحترام وإن إختلفت طريقه التفكير او الحديث .. أدرك الكاتب الأن أن الشهرة بإمكانها أن تغير شخصيته .. فإن كان جميع من بالمدينة يقرأ مقلاته كل يوم ليس معناه ان رأيه أصبح مُسلم به لا يعارضه احد فيه .. بالتأكيد هو مدين لها بالأعتذار ولكن لن يجهر به فهو أمامها لم يخطئ حتى الأن .. ولكن لابد أن يبادر بحركة شيك حتى يقدم لها مضمون الأعتذار "انا حشرب قهوة .. فى نفس الفنجان اللى الهانم شربت فيه قهوتها" توجه بالكلام للمرأة "واسمحيلى يا هانم الحساب كله عندى انا"

تبتسم المرأة وتشر برأسها بالموافقة ويسود الصمت للحظات وتبدأ المرأة حوار جديد لا نسمع منه شئ بسبب علو صوت الموسيقى فى الكافيه.



مصطفى الشابى