الجمعة، 8 نوفمبر 2013

مُخدر

مُخدر

دخل ذلك الشاب الطويل .. مستقيم البنية الى القهوة وبعد بحث بسيط وجد أصدقاءه وقد التفت الى اصوات ضحكاتهم العالية .. جلس على كرسى وبدأ بالحديث معهم بعد القاء التحيه.

قال صديقاً له "ها .. عملت ايه فى نتيجة الكلية ؟"

رد عليه "اهو .. نجحت بأمتياز !"

قال بسعادة "مبروك .. ولقيت شغل ولا لسه ؟"

رد عليه وقد بان على وجهه علامات الضيق "لسه والله"

قال مستعجباً "والله شئ له العجب .. بقى خريج كلية هندسة بتقدير امتياز ولسه مش لاقى شغل ! .. أومال مين اللى يلاقى ؟"

قال بيأس "مش فارقة .. انا بدأت ادور على شغل برا ... اهو اى بلد تانية احسن من البلد دى"

ثم إنطلق صوت من خلف جرنان يقول "وحتعمل ايه برا ؟ خليك فى بلدك .. اللى حيرزقك برا قادر يرزقك جوا !"

إلتفت الشاب الى الصوت فوجده رجل عجوز .. فى السابعين من عمره .. فقال له "بردو .. اى حاجة أحسن من هنا"

قال وهو يشاور بيديه كأنه يلتقط شئ من الماء "يابنى إحنا زى السمك .. لو خرجنا برا الماية .. نموت !"

رد عليه وهو يرفع حاجبه لأعلى "ولو فضلنا جوا الماية وهى ملوثة بردو حنموت"

رد بسخرية "ما احنا عايشيين اهو .. بقالنا سنين .. ما موتناش .. احنا خلاص جالنا مناعة من التلوث !"

قال بجدية وقد بدأ بالإنفعال "وإنت بتسمى اللى احنا فيه ده عيشة ! ... مش لازم نكون قطعنا النفس عشان نموت ؟ يا حج إحنا بنموت فى اليوم الف مرة .. غيرنا ما يعرفش الموت غير فى آخر لحظة فى حياته !"

سأل وهو ينظر له بترقب "وانت فاكر اما تسافر حتستريح ؟"

أجاب وهو يريح جسده على الكرسى " على الأقل مش حعاشر ناس أغبية !"

رد عليه بسؤال آخر "انت فكرك البلد اللى انت رايحها دى .. الناس فيها كويسة ... الغباء ده صفة فى البنى أدمين كلهم .. لا يمكن إستثنائها !"

رد عليه "على الاقل هناك حيبقوا أغبية بس ... هنا أغبية وجَهلة !"

رد وهو يتنهد "بس .. بس طيبين وأغلب من الغلب"

أجاب عليه "وايش تعمل الطيبة فى زمانا ده ... الغلب بيولد ضعف .. والضعف بيبقى سبب فى إستخدام الشر كوسيلة أسهل وأريح ... وبعدين .. انت هتفهم منين ! .. انت عيشت زمن غير الزمن .. شوف البلد دى وهى عزّها! أيام اما كانت الفرخة بأتنين جنية .. والناس كلها بتلبس بدل فى الشارع .. دلوقتى الفرخة بتمانية وتلاتين جنية وبتطلع معضمة .. والناس طالعه من هدومها .. ولو ضحكت لهم وانت ماشى فى الشارع يقولوا عليك مجنون !"

رد عليه مبتسم " وانت فاكر إن زمان الدنيا كانت حلوة ؟!"

رد بثقة " أكيد ... كفاية السنيما وافلام زمان ... بتبين اننا كنا محترمين والبلد كانت كويسة غير القرف اللى احنا عايشينه ده"

رد عليه وهو يفهمه حقيقه الأمر "يابنى الفرق بين زمان ودلوقتى مش كبير .. من وحش إلى أوحش  ... كل اللى موجود دلوقتى كان موجود زمان بس بدرجات متفاوتة .. يعنى عقبال عندك كده اما عبد الناصر جه .. سلط الضوء على الحاجات الكويسة .. كان عايز العالم يفتكر اننا متقدمين فى كل حاجة .. أفلام أعمل .. سدود ابنى .. خطاباته بالنسبه لنا كانت مخدر ... كان بيخلينا نحس اننا مركز العالم و الدنيا جميلة من حولينا .. لحد النكسة .. بدأنا نحس إن فى حاجة غلط.. وبعد كده جه السادات وبدأ يركز على اسرائيل والحرب .. وفهمنا بردو ان العالم مستنى مصر تهزم اسرائيل .. وأقنعنا اننا احسن شعوب الارض إننا شعب الله المختار .. لحد اما مات .. بدأ تأثير المخدر يروح ..بدأنا نحس بالقرف اللى كانوا بيخدرونا منه .. بدأنا نحس إننا اسوء من أسوء شعوب الأرض .. كأننا شعب الله الملعون ! .. مبارك معملش حاجة .. مبارك كان بيفوقنا بس من غير ما يدرى !"

سأل مترقباً "ومرسى ؟"

رد سريعاً "أهو ده اللى طلع لنا الجديد والقديم كله .. ده اللى خلانا نحس إننا بنحب البلد وخافيين عليها لا تروح من إيدينا لأيدهم!"

سأل متعجباً "وهى من أمتى كانت فى إديكم ؟"

رد والحيرة تملئ وجهه "تصدق معرفش ..."

قال له "مفيش بلد مِلك شعوب .. البلد دى زى حتة الأرض والشعب زى الفلاحين اللى بيزرعوها .. زمان كانوا بيورثوها بالفلاحين بتوعها .. دلوقتى بأسم الديمقراطية .. بيخلوا الفلاحين هم اللى ينقوا –او بيقنعوهم بكده- اللى يورثهم ويملكهم ويخليهم فى إديه !"

قال الرجل بتحسر "عندك حق يا ابنى بس نعمل ايه .. ادى الله وادى حكمته"

قال له متعجباً "طيب انت متقيد بحكمة ربنا وسلمت من زمان .. يتقنعنى انا كمان اسلم زيك ليه ؟ عايزنى اقعد فيها ليه؟"

رد عليه وهو يزم شفاتيه "صدقنى معرفش .. يمكن تأثير المخدر عليا لسه مارحش !"


                                                                                         مصطفى زكريا الشابي

هناك تعليق واحد: