الجمعة، 25 يوليو 2014

نشرة واحدة

نشرة واحدة

كنت قد أتفقت مع زميلى وصديق الطفولة محمود اننا سوف نذهب لنقضى بعض المشاوير الهامة فى بعض المصالح الحكومية .. فتلك المشاوير لا يُستحب ان تذهب لقضائها وحيداً حتى لا يسيطر عليك وحش الملل والروتين فتجد من يسليك ويهون عليك ساعات الانتظار الطويلة .. ولكن وجدت ان ساعات الانتظار سوف تبدأ تحت بيت محمود .. فبعد محاولات فاشلة للاتصال به قررت ان اصعد الى المنزل لكى اخذه معى قضاء تلك المشاوير .. وكان الأمر عادى فكنت من المترددين على هذا المنزل منذ الابتدائية فكنا نجلس مع بعضنا بالساعات لللعب واللهو.

صعدت درجات السلم الرخامية ووقفت قليلاً من الوقت امام الباب مدققاً فى تفاصيله التى أصبحت جزء لن يمحى من ذاكرتى حتى سمعت صوت من الداخل يقول "جاية اهو" وفُتح الباب

"أهلاً أهلاً يا مصطفى منور يا حبيبى" قالت والدته صديقى مدام سميرة وقد أرتسمت على وجهها ابتسامه عريضة مرحبة بقدومى

-أتفضل يا حبيبى

-شكراً يا طنط .. انا مش حطول عليكم بس هو محمود هنا ؟

-اه يا حبيبى أصحهولك فى ثوانى

-معلش يا طنط والله بس عشان عندنا مشوار مهم .. هو تلاقيه نسى

-لا لا متقولش كده يا حبيبى اصحهولك اوامك .. هو كده خُم نوم .. أتفضل استريح عقبال ما أصحهولك .. تشرب ايه ؟

-لا لا ملوش لزوم يا طنط

-عيب يا حبيبى لازم تشرب .. هو انت بخيل ولا ايه ؟

-خلاص يا طنط طلما انت مصممة يبقى اى حاجة من إيدك

-ماشى .. خش استريح بقى البيت بيتك ..

دخلت الى غرفة الجلوس وأخترت مكان بعيد عن أنظار اهل المنزل حتى لا اشعر انى دخيل الى حد ما .. وسمعت صوت مدام سميرة وهى تنادى على محمود "أصحى يا محمود .. أصحى يا مدهول انت مصطفى هنا وعايزك .. يلا بسرعة" ، ثم فى أثناء انتظارى لمحمود جاء عمو خالد والد محمود ودخل غرفة الجلوس وكانت بيننا علاقة معرفة ليست بالقوية ولا بالضعيفة .. ولكنها كانت علاقة احترام متبادل .. هو ظابط متقاعد منذ سنتين وكنت أسمع من محمود انه يجلس طوال اليوم فى البيت لا يفعل شئ سوى اعطاء الاوامر لكل من فى المنزل حتى فى المطبخ فى محاولة لإقناع نفسه بأنه مازال فى الخدمة ومازال لديه القدرة على إعطاء الاوامر ، وعندما وجدنى أجلس على الفوتية أقبل على مُرحباً

-أهلاً أهلاً يا مصطفى

-أهلاً يا عمو ازى حضرتك ؟

-الحمد لله يا ابنى .. انت ازيك وازى الدراسة ؟

-الحمد لله يا عمو

- وازى العيلة الكريمة ؟

-بيسلموا على حضرتك

-اشكرك اشكرك .. اتفضل استريح ..

ثم جلس على الكنبة وأخد ريموت التليفزيون وآتى بقناة اخبارية وجلس ليتابع بأهتمام أخبار الدينا ... وكانت جميع الأخبار من فصيلة "قتيلان وعشرة مصابين فى انفجار" "قصف جوى على غزة" "جيش المقاومة السورية يقتل مائة من جيش النظام" "داعش تقيم مذبحة جديدة" "عمليات تكفيرية فى سيناء" والغريب ليس فى الاخبار .. فهى عادية .. ليس بها شئ جديد .. ولكن الغريب كان فى عمو خالد .. فكان يتابع الاخبار وكأنه يشاهد مسرحية هزلية ، ابتسامة عريضة على وجهه وقهقهة من حين لأخر .. ثم دخلت طنط سميرة ومعاها صانية بها عصير برتقال

-أتفضل يا مصطفى .. يوه *موجه كلامها لزوجها* انت مش حتبطل فُرجة على اخبار دى ؟

-اهو نعمل حاجة بدل قاعدتنا دى ولا انت ايه رأيك يا مصطفى ؟

قلت بتلقائية "تسلية يا فندم .. تسلية"

قالت سميرة " نفسى افهم غيتك ايه فى الفرجة على الاخبار دى .. إلا ما فيها خبر واحد حلو يوحد ربنا"

رد خالد بضيق "عجبانى بقى يا ستى انت .. خليكى فى المطبخ بتاعك واتكلى على الله"

ردت عليه بسخرية "ماشى يا خويا .. بس عالله تيجى عالمطبخ ده وتقعد تشخط وتنطر زى كل مرة"

ذهبت مدام سميرة الى المطبخ وهى تنادى على محمود وتقول "يلا يا محمود بقى" ثم التفت لى عمو خالد بعد قرائته للمنشت الذى ظهر على الشاشة ثم قال وفى عينه لمعة "غريبة الأخبار دى !"

أستغربت قليلاً من الكلام ثم قلت "غريبة ازاى يعنى يا عمو ؟ ما هى اخبار زى باقى الاخبار اللى بنشوفها كل يوم !"

قال"ايوة .. ما عشان كده هى غريبة"

قلت وقد زادت حيرتى "مش فاهم يا عمو والله"

رد "زمان كنت تلاقى الاخبار مختلفة من بلد لبلد .. دلقوتى الأخبار بقت هى هى .. الصور هى هى .. حتى تصريحات الرؤساء هى هى ، وفى الاخر اللى بحصل هو هو"

قلت "وهو ايه اللى بيحصل كل مرة ؟"

قال "ولا حاجة" ثم اطلق ضحكة وبعدها أكمل قائلاً "الناس اللى بتطلع فى التليفزيونات ولابسة بدل ومتهندمة دى وحاطة رجل على رجل وقدامها كوباية ماية بمورد وبتقولك لازم الوضع اللى فى غزة يقف .. ولازم اللى بيحصل فى العراق ده يبقى له حد ، ولازم اللى بيحصل فى سوريا ده يكون له حل .. هم اكتر ناس مش عايزين الوضع يخلص ويتحل"

قلت بعد همهمة "حاميها حراميها يعنى"

رد بأبتسامة "لا .. يقتل القتيل ويمشى فى جنازته يقول كنت بنصحه يبطل دخان"

قلت متسائلاً "طب والحل ايه يا عمو ؟"

قال بيأس "مفيش حل .. طول ما الناس اللى بتتحكم فى البلاد دى مش عايزة حل يبقى مفيش حل"

قلت بتفائل "يمكن اما نبقى احنا دولة عظمى نلاقى حل"

أطلق ضحكة عالية وقال "الله يحظك .. ده انت بتضحك اكتر من الاخبار .. عقبال ما نبقى دولة عظمى –ده لو باقينا
يعنى- حيبقى البلاد اللى انت عايز تنقذها دى اتشالت من على الخريطة"قلت "يبقى الحل بإيد ربنا بقى"

قال عمو خالد "والله الواحد نفسه يعرف حكمة ربنا فى اللى بيحصل ده .. ناس بريئة بتموت كل يوم وناس وسخة عايشة ومش بتموت .. العالم كان ممكن يكون احسن لو الناس الصح هى اللى عاشت... زمان كنت بشوف الاخبار دى واضايق .. دلوقتى خلاص .. جالى تناحة وبقيت بضحك على المسرحية اللى ورا الستار .. اللى مش بيشوفها الجمهور .. بيحسها بس .. ده لو لسه بيحس يعنى"

قلت "مش عارف والله .. الواحد بقى متلغبط .. مبقتش حتى عارف من الصح ومين الغلط .. مين اللى المفروض يعيش ومين اللى المفروض يموت !"

قال بحزن "والله ياابنى انا بدعى ربنا انه يخرجنا منها على خير"

قلت "والله يا عمو انا بحس اننا فاهمين ربنا غلط"

قال مستغرباً "غلط ازاى يعنى ؟"

رديت وقلت " يعنى .. البلاد اللى عماله تُقع ومش بتقوم دى عماله تقول بندعى ربنا انه يرجع لنا بلادنا ، ينصر بلادنا وكأن ربنا يعنى بيحقق الأمانى كده وخلاص .. الناس دى مش بتعمل حاجة عشان بلادها تقوم وتنتصر .. هم كمان مش عايزين البلد تقوم على حيلها .. القوة مش فى إيد الناس اللى برا بس .. الناس اللى برا واللى جوا .. على رأى احمد ذكى .. كلنا فاسدون لا استثنى احداً .. حتى بالعجز الصامت قليل الحيلة"

أطلق تنهيدة ثم قال "يلا يا ابنى بقى .. الحل دلوقتى هو اننا نغير القناة بقى .. الا بيقولك فى رقاصة جديدة مكسرة الدينا .. اسمها شاهيناز باين ؟!"

ضحكت فى سرى وارتسمت ابتسامة على وجهى "صافيناز يا عمو"

قال وهو يتأكد ان طنط سميرة فى المطبخ "دى عليها حاجات يا ولد" واتبعها بضحكة ثم تنهيدة .. ثم اكمل "اهيه .. ليت الشباب يعود يوماً بقى"

اطلقنا بعض الضحكات وتبادلنا اطراف الحديث حتى أنهيت شراب البرتقال ثم وجدت محمود فى النهاية مقبل عليّ بعد نصف ساعة انتظار .. ودعت عمو خالد وطنط سميرة وخرجت مع محمود لنتناقش فى قضيانا المملة التافهة مثل كل يوم .. تاركين وراء ظهورنا قضايا الوطن العربى والبلد المحبوب حتى إشعار أخر.


مصطفى الشابي                                                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق